"جحيم سيكوت".. مأساة إنسانية يعيشها المهاجرون خلف الأسوار الحديد في السلفادور

"جحيم سيكوت".. مأساة إنسانية يعيشها المهاجرون خلف الأسوار الحديد في السلفادور
مهاجرون سجناء في السلفادور

وسط الجبال شمال العاصمة سان سلفادور، يقف مركز احتجاز الإرهابيين المعروف اختصارًا بـ “سيكوت - CECOT” رمزاً لعصرٍ جديد من القمع والانتهاكات، افتتحه الرئيس السلفادوري نجيب بوكيلي في فبراير 2023، متعهدًا بأن يكون السجن الأكثر أمانًا في أمريكا اللاتينية لمكافحة عصابات الشوارع المتجذرة في البلاد، إلا أنّ ما حدث بين جدرانه بات اليوم نموذجًا لانتهاك صارخ لحقوق الإنسان، ولا سيما حق مئات المهاجرين المرحّلين من الولايات المتحدة في عملية مثيرة للجدل أثارت استنكار المنظمات الحقوقية الدولية.

من الترحيل إلى العنف

بدأت القصة في مارس الماضي، حين نُقل نحو 288 مهاجرًا -غالبيتهم من فنزويلا- من الولايات المتحدة إلى سجن سيكوت في السلفادور، بعد اتهامهم جزافاً بالانتماء لعصابة "ترين دي أراغوا"، وفقًا لتصريحات مسؤولين أمريكيين في حينه. المثير أنّ معظم هؤلاء لم يسبق أن أُدينوا بجرائم داخل الولايات المتحدة، بحسب وثائق داخلية كشفها موقع "بروبابليكا".

لم يمض وقت طويل حتى بدأت تتسرّب شهادات مروّعة من داخل السجن منها ضرب مبرح، إهانات مستمرة، حرمان من الطعام الكافي، مياه شرب ملوثة، وأوضاع صحية مريعة دفعت بعض المعتقلين لمحاولة الانتحار، أو التفكير فيه.

 جيرسي رييس باريوس، لاعب كرة القدم الفنزويلي السابق، قال لصحيفة "التايمز" إنّ حراس السجن استقبلوهم بعبارة: "مرحبًا بكم في جحيم الأرض".

"لا إيسلا".. الزنزانة الأكثر رعبًا

في الداخل، حُشر المهاجرون في زنازين ضيقة بلا تهوية، وبينها زنزانة تعرف باسم "لا إيسلا"، حيث سُجلت أسوأ الانتهاكات، أندري خوسيه هيرنانديز روميرو، وهو مصفّف شعر فرّ من بلاده بسبب الاضطهاد، قال إنه تعرّض لاعتداء جنسي متكرر هناك، وآخرون تحدثوا عن ضربات عنيفة أفقدت بعضهم الوعي، وعن صرخات ألم تملأ أرجاء الزنازين.

في ذروة اليأس، دخل المعتقلون في إضراب عن الطعام، وحين لم يُجدِ ذلك نفعًا، لجأ بعضهم إلى جرح أجسادهم، وكتبوا رسائل على الجدران بدمائهم في محاولة يائسة لجذب انتباه العالم لمعاناتهم.

أدلّة دامغة وصمت رسمي

تحركت منظمات حقوقية دولية في محاولة لوقف هذا الانحدار الإنساني. في مايو الماضي قدّم ائتلاف من المنظمات -منها (مركز روبرت ف. كينيدي لحقوق الإنسان، والمجلس العالمي للتقاضي الاستراتيجي، وعيادة حقوق الإنسان الدولية بجامعة بوسطن، ومركز دراسات النوع الاجتماعي واللاجئين)- دعوى قضائية عاجلة لدى لجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان، طالبت الدعوى بإصدار أمر طارئ لحماية حياة المعتقلين، معتمدةً على شهادات مباشرة من ناجين، وأدلة وصفت بأنها دامغة.

وما يزيد من خطورة الوضع شهادة ثلاثة مقرّرين خاصين للأمم المتحدة، بينهم رئيس سابق للجنة البلدان الأمريكية، أكّدوا في مذكرة مشتركة أنّ نقل المهاجرين بهذه الطريقة يمثّل انتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي، وأنّ السلطات السلفادورية تتحمل المسؤولية المباشرة عن الانتهاكات.

غير أنّ حكومة السلفادور، وبعد الإفراج في يوليو الماضي عن 252 معتقلًا فنزويليًا بموجب اتفاق ثلاثي مع فنزويلا والولايات المتحدة، طلبت من اللجنة رفض الدعوى بدعوى انتفاء الخطر، إذ لم يتبقَّ سوى 36 معتقلًا. لكن المنظمات الحقوقية ردّت مؤكدةً أنّ الخطر ما يزال قائمًا على هؤلاء، ولا سيما أنّهم محتجزون بمعزل عن العالم الخارجي.

عندما يصبح الجسد شاهداً

من بين الشهادات البارزة، قال خوان خوسيه راموس، البالغ من العمر 39 عامًا: "كنتُ أُفضّل الموت أو الانتحار على الاستمرار في هذه التجربة». وأضاف: "أن يستيقظ المرء في الرابعة فجرًا ليُضرب ويُهان فقط لأنه يريد الاستحمام… كان ذلك تحطيمًا كاملًا للكرامة".

ماركو خيسوس باسولتو ساليناس الذي كان يعيش في الولايات المتحدة بشكل قانوني، وصف استهزاء الأطباء داخل السجن بمعتقلين ينزفون. وقال: "كان الطبيب يسألنا بابتسامة ساخرة: كيف حالكم؟"، مضيفًا أن المشهد لم يكن مجرد سوء معاملة بل إذلال متعمد.

حتى اللحظة، لم تتمكن عائلات معتقلين اثنين من السلفادور، اختفيا في مارس، من معرفة مكانهما، الأمر الذي يُفاقم المخاوف من أنّ بعض المحتجزين ربما تعرضوا للإخفاء القسري.

لماذا سُمح بترحيلهم؟

يعود السياق الأوسع لهذه الكارثة إلى السياسات الأمريكية الأخيرة للحد من الهجرة، والتي اشتدت في عهد الرئيس دونالد ترامب. وفقًا لتحقيق “بروبابليكا” كانت إدارة ترامب تعلم أن قرابة 200 معتقل لم يُدانوا بأي جريمة، ورغم ذلك صُنّفوا أعضاء عصابات بناءً على وشوم أو شبهات سطحية. مثل حالة رييس باريوس الذي اتُّهم بالانتماء للعصابة لأنّ على ذراعه وشمًا لكرة قدم يعلوها تاج، وهو رمز نادي ريال مدريد الإسباني.

النقل إلى "سيكوت" جاء ضمن مساعي واشنطن لإظهار الحزم تجاه الهجرة غير النظامية، لكن النتيجة كانت عشرات الأبرياء في زنزانات التعذيب، وعشرات آخرون ما زالوا مختفين حتى اليوم.

موقف رسمي متصلّب

حكومة السلفادور، بقيادة الرئيس بوكيلي، تروّج لسجن سيكوت رمزاً للنصر على الجريمة المنظمة، متجاهلةً الاتهامات بانتهاكات حقوق الإنسان. في حين قالت المتحدثة باسم وزارة الأمن الداخلي الأمريكية، تريشيا ماكلولين، للصحافة: "نسمع الكثير عن قصص البكاء الكاذبة التي يرويها أعضاء العصابات، ولا نسمع ما يكفي عن ضحاياهم" وهو تصريحٌ يعكس تجاهلًا لمبدأ أساسي في القانون الدولي: قرينة البراءة.

ما وراء الأرقام

على الورق، أُفرج عن معظم المهاجرين المرحّلين. لكن الواقع يقول إن 36 شخصًا ما يزالون محتجزين في ظروف مجهولة حتى اليوم، وبحسب خبراء، يمثّل هذا العدد نقطة اختبار حقيقية لمدى التزام النظام الإقليمي لحقوق الإنسان بحماية المستضعفين، خصوصًا إذا صمتت اللجنة الأمريكية عن إصدار أمر طارئ.

ما يجري في سيكوت لا يتعلق فقط بمهاجرين فنزويليين أو سلفادوريين، إنه نموذج مخيف قد يُكرَّر ضد لاجئين أو مهاجرين من بلدان أخرى، إذا سُمح بانتهاك القانون الدولي دون عقاب، وحول هذا تقول بيلا موسلمانز، مديرة المجلس العالمي للتقاضي الاستراتيجي: الأمر لا يخص فقط الأشخاص الستة والثلاثين الذين ما زالوا مختفين؛ بل يخص ترسيخ مبدأ المساءلة الإقليمية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية